logo


في معالجة قضية العلم التقني في وطننا

أحمد صدقي الدجاني

عند الشروع في كتابة هذا الحديث عن "الفكر العربي والعلم التقني" يكون قد مضى شهر على انعقاد مؤتمر الفكر العربي الأول بين يومي 21 و23 شعبان 1423، 27 و29/10/2002. وهو المؤتمر الذي حظي بتغطية إعلامية واسعة لفعالياته أسهمت في جعله "تظاهرة فكرية". وقد حرصتُ طوال الشهر على أن أتابع تفاعلات هذا الانعقاد من خلال ما أشارك فيه من "محافل" وما أقرأه من صحف. وذلك لما هذه التفاعلات من دلالات على ما كان المؤتمر من أثر في حياتنا الفكرية، ولى قضايا تحظى باهتمام الأمة وأهل الفكر بخاصة، تحمل في طياته توجيهاً لما ينبغي عمله.

إحدى هذه القضايا هي قضية "حال العلم التقني في وطننا العربي ودائرتنا الحضارية الإسلامية".

لقد برزت هذه القضية في ندوة علمية نظَّمتها دار الكتب والوثائق يوم الأحد 13/11/2002 لمناقشة كتاب "التعليم العلمي والتقني في إسرائيل" للدكتورة صفا محمود عبد العال. وقد شارك فيها عدد من الأساتذة الإجلاء المعنيين بالتربية وبالعلم التقني. وركز الحوار الذي دار على "حال العلم التقني في ربوعنا"، موظفاً النظرة المقارنة مع حال العدو الذي يواجهنا، ومتَّسماً بنقدٍ مرير لواقع البحث العلمي العربي. وتكررت الإشارة في الحوار إلى المؤتمر وفعالياته وما يمكن لمؤسسة الفكر العربي أن تسهم فيه لمعالجة هذه القضية.

أذكر أيضاً أن واحداً من كبار علمائنا العرب د. فوزي حماد سألني عما إذا كان المؤتمر قد أولى البحث العلمي التقني عنايته؟ وذلك بعد عودته من الخارج في مهمة علمية. وقد أجبته بأن المؤتمر خصص جلسته الرابعة "للتعليم العربي والواقع والمستقبل"، وخصص الجلسة الثامنة للإجابة عن سؤال "متى يصبح العرب منتجون للتقنية؟" وشارك في الجلستين نخبة من أعلامنا في التربية والتقنية. وتوقعتُ أن تقوم المؤسسة بطباعة الأوراق المقدمة في الموضوعين ونشرها. ولفتني في حديث أخي الهاتفي الذي تطرق إلى أحوالنا الراهنة أنه يُنبِّه  إلى خطورة ما يقوم به أعداؤنا من استهداف علماؤنا في مجال التقنية لكي يحرموا وطننا من علمهم. وقد بدا هذا جلياً في قرار مجلس الأمن رقم 1441 الخاص بالعراق. وتداعى إلى خاطري كيف بدأت واشنطن منذ عام 1988 التخطيط لضرب "المعرفة التقنية" في العراق بعد انتهاء حرب الخليج الأولى، وكيف تردد تعبير Know – How الذي ترجمته الحرفية "معرفة الكيفية" في المخططات الأمريكية تجاه وطننا العربي الرامية إلى تجريد الأمة من "قوتها المعرفية". وقد شرحت ذلك في كتابي "الانتفاضة الفلسطينية وزلزال الخليج". وجرى استحضار كيف قامت واشنطن في مطلع عقد التسعينات باستهداف الصناعة والقاعدة الصناعية العراقية ثم قامت أواخر ذلك العقد باستهداف القاعدة التقنية العراقية. والتعريف البسيط للتقنية هو "مجموعة المعارف والمهارات المتحدة لإنتاج السلع".

واضح إذاً أن عدونا المتمثل بقوى الطغيان في الغرب وأتباعهم الصهاينة في الكيان الإسرائيلي مشغولون بهذه القضية.. قضية العلم التقني في وطننا العربي. وهم يتعاملون معها وفق خطين استراتيجيين. الأول هو، التربص بمحاولات التقدم العربي على هذا الصعيد وتوجيه ضربات له. والآخر تقوية العلم التقني في الكيان الإسرائيلي إلى آخر مدى ممكن.

يتجلى هذا الخطر الاستراتيجي الثاني بوضوح حين نتعرف على التعليم العلمي والتقني الإسرائيلي. وقد وفقت د. صفا محمود عبد العال في عرضه في أطروحتها، حيث تناولت في الفصل الأول التركيب البنيوي للعلم التقني في القاعدة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية منذ بداية الغزو الذي استهدف فلسطين في القرن التاسع عشر وبعد إقامة "الدولة". ثم توقفت أمام القدرات المؤسسية لبرامج البحث والتطوير الإسرائيلي الحكومية وغير الحكومية في الفصل الثاني، وكيف جرى إنشاء مؤسسة الطاقة الذرية في 8/1948 والمجلس القومي للبحث ودائرة التطوير، ووضعت برامج بحث وتطوير إسرائيلية أمريكية ومع دول أخرى غربية في الفصل الثاني. وتعرفت في الفصل الثالث على مجالات البحوث الاستراتيجية العلمية والتقنية متطرقة إلى حرب المعلومات والتعاون الإسرائيلي الأمريكي في هذا المجال. وشرحت في الفصل الرابع فلسفة التعليم التقني ومساراته.

هل أهل العلم في وطننا العربي منتبهون إلى هذا الخط الاستراتيجي في تعامل عدونا في هذه القضية؟ يبرز هذا السؤال أمام قارئ هذا الكتاب وكتب أخرى عربية عالجت الموضوع. والجواب الذي أطرحه بعد مراجعة بعض هذه الكتب في مكتبتي "نعم. هم منتبهون إليه. وقد انشغلوا منذ النهضة العربية بقضية تقدم العلم التقني وبرز منهم رواد نجحوا في وضع لَبنات، وفي إشاعة مناخ علمي حثَّ أهل الحكم على إقامة بعض المؤسسات والمراكز البحثية العلمية. ولكن حال العلم التقني في أوساطنا اليوم دون ما تطلعوا إلى تحقيقه بكثير". وهذا ما حدا بأخي العالم التربوي حامد عمار إلى كتابة تقديم ثمين لهذا الكتاب تناول فيه دور العلم والتقنية في البقاء والنماء، وما بين العلوم السياسية والتطبيقية، وأثر العوامل المجتمعية في تطوير المعرفة العلمية، ومؤشرات النمو العلمي والتقني. وهذا أيضاً ما دفع دار النشر إلى إصدار سلسلة آفاق تربوية جديدة بإشرافه غايتها "تحريك ما أصاب العلوم التربوية والنفسية من ركود في الفكر والممارسة". والأمر يصدق على مراكز عربية أخرى في أقطار وطننا العربي. ومثل عليها مركز دراسات الوحدة العربية الذي خصص عدداً من ندواته وأصدر عدداً من الكتب في هذا الموضوع.

يمكن القول أيضاً إن قطاعاً واسعاً من الرأي العام العربي تنبه إلى أهمية التقدم العلمي التقني، ويعلي من شأن المختصين في العلوم وقد شهدت جامعاتنا في العقود الخمسة الماضية إقبالاً على الدراسة في الكليات العلمية. وذلك بفضل التوعية بأهميته، واستحضار ما حققته حضارتنا من إنجازات في حقوله إبان ازدهارها. ويتداعى إلى خاطري مثل على ذلك، حين تضمن الاحتفال بذكرى مرور ثلاثة عشر قرناً على تأسيس جامعة الزيتونة في تونس، النظر في موضوع "الإسلام والعلوم وكونية المعرفة العلمية" في رجب 1417، 11/1996. وأذكر أنني عرضت في بحثي الذي شاركت فيه للأساس العقيدي الذي حقق ازدهار المعرفة العلمية في الحضارة الإسلامية، ورؤية هذه الحضارة للعلم والمعرفة وعطاؤها لهما، وكونية المعرفة العلمية وحالها في عصرنا، وأخير دور الإسلام اليوم.

إذا كان أهل العلم متنبهين إلى ضرورة العناية بالعلم التقني في وطننا العربي، وإذا كان هناك رأياً عربياً يدعمهم، فلماذا هذا القصور؟ وأين هو الخلل؟

سألت  المهندس منيف الزعبي المدير العام لأكاديمية العلوم الإسلامية أن يجيبني بجوامع كلم، وهو على اتصال بحكم عمله بالنشاط العلمي التقني في الدائرتين العربية والحضارة الإسلامية، فأجاب "المختصون بهذا العلم التقني موجودون. وهم على مستوى أقرانهم في الدوائر الحضارية الأخرى، وإقبالهم على عملهم عظيم. ولكن الميزانية التي بين أيديهم للبحث العلمي التقني ضئيلة للغاية يقدرها البعض بـ 1 إلى 30 من المعدل للميزانية في دول أخرى. لا بد إذاً من توفي التمويل من المستوى الرسمي ومن المستوى الأهلي. ولا يزال القطاع الخاص في بلادنا غير مشارك في ذلك بما يكفي، مع أن مردوده عليه كبير. ولا بد أيضاً من أن يحظى هذا الموضوع باهتمام قمة الهرم في الحكم ودعمه وتشجيعه". واستزيد من أخي د. فوزي حماد فيؤكد أهمية إسهام القطاع الخاص في ميزانية البحث العلمي مع ضرورة أن توفر الدولة بداية القاعدة الأساسية وتتحمل مسؤولية توفير المال اللازم لها، وتعهد بالقيادة لمن هم أهل "لأن المطايا لا تسير إلى غايتها ـ إن علاها غير فرسانها ".

يتداعى إلى خاطري هنا كيف عُني مؤتمر القمة الإسلامي الذي انعقد بالمغرب عام 1984 بالنظر في هذا الموضوع، فكان أن اتخذ قراراً بإنشاء أكاديمية العلوم الإسلامية ورحبت باستضافة الأردن لها، وتأسس مكتب خاص برئاستها الشرفية في باكستان. وأذكر وقد كنتُ عضواً في وفد فلسطين لتلك القمة  ما ناله هذا القرار من استحسان. ويتصادف وأنا أعيش مع هذا الحديث أن أسمع ما تقدمه مؤسسات أجنبية من "منح"! "ومساعدات"! لمراكز بحث علمي في بلادنا مقابل توظيفها في عمل بحوث بعينها والإفادة من هذه البحوث، وأيضاً التأثير عليها وبخاصة في مجال ما يعرف باستطلاعات الرأي. فيتجلى مدى الخطر الناجم عن ذلك. وهذا الموضوع يستحق حديثاً خاصاً.

كما يتداعى إلى خاطري ونحن في أواخر شهر رمضان وانتفاضة الأقصى تتابع صمودها وعطاؤها، فكيف نوجه الشباب المقاوم إلى العناية بالعلم التقني في حدود إمكاناتهم البسيطة، فبرز منهم الشهيد يحيى عياش واخوته، وسجلوا في عملياتهم توظيف التقنية في خطوة أولى، وذكرونا بما فعله أجدادهم في حروب الفرنجة قبل ثمانية قرون.

وبعد..

فإن لنا أن نتوقع قيام مؤسسة الفكر العربي والجهات المعنية العربية بإعطاء "قضية حال العلم التقني العربي" حقها من العناية.


| الصفحة الرئيسية | سيرة ذاتية | مؤلفات | مقالات | مقابلات | مقتطفات | معرض الصور |