logo


الرئيس بوش وتحالف الصناعيين والعسكريين وحرب العولمة

أحمد صدقي الدجاني 

اختارت "الأهرام" عنواناً رئيسياً في الصفحة الأولى من عدد الأربعاء 12/6/2002 "واشنطن تسارع إلى توضيح تصريحات بوش الأخيرة وتؤكد التزامها بالعمل لتحقيق السلام من خلال الحل السياسي". وقد أوضحت السيدة هدى توفيق في رسالتها من واشنطن أن البيت الأبيض سارع إلى توضيح أبعاد الموقف الأمريكي من قضية الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية بعد فترة وجيزة من المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس بوش مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون. وأكد آري فيشر المتحدث باسم البيت الأبيض أن "قراءة" تصريحات الرئيس بوش في ذلك المؤتمر الصحفي على أنه يؤيد توجه شارون ضد الحل السياسي للقضية هي قراءة "غير سليمة". وكان الصحفيون الذين استمعوا لتلك التصريحات يوم الاثنين 10/6 قد اعتبروها مؤيدة لشارون الذي قال أنه يرفض الدخول في مباحثات سياسية مع الفلسطينيين، وأنه لا يجد شريكا يمكن أن يتفاوض معه". وقد استوقفهم بخاصة قول بوش "إن شروط السلام ليست موجودة في الوقت الحالي، لأنه لا أحد يثق بحكومة فلسطينية تضمن تنفيذ شروط السلام وتوفر الأمن للإسرائيليين". كما استوقفتهم صورة بوش وهو يربِّت على كتف مجرم الحرب شارون ويتبادل معه الابتسام. 

كان الرئيس بوش في تصريحاته تلك "قد واصل هجومه الحاد على عرفات معرباً عن خيبة أمله في عدم انتهاجه أسلوب قيادة يبعث الأمل والثقة في نفوس الشعب الفلسطيني" (كذا!!!) وأوضح "أن مؤتمر السلام لن يعقد قريباً نظراً لعدم توافر الشروط اللازمة لعقده، ومنها شرط الثقة بالحكومة الفلسطينية"، مُعبراً عن عدم الثقة بالتشكيل الجديد لها. وقد أحسن الأخ ياسر عبد ربه وزير الثقافة والإعلام الفلسطيني في وصف تصريحات بوش بأنها "تَبَنٍّ حرفي للغة أرييل شارون وانحياز كامل لسياسة الاحتلال. وأن هذا دليل على أنه لا يمكن الوثوق بالإدارة الأمريكية والوعود والالتزامات التي قطعتها للعرب". وطالب بمناقشة عربية رسمية "لهذا الانحياز التام للموقف الإسرائيلي". وصدرت تصريحات فلسطينية أخرى اتهمت جورج بوش "بالتغاضي عن الجرائم التي يرتكبها شارون في حق الشعب الفلسطيني"، وأكدت "أن الولايات المتحدة أصبحت شريكاً في العدوان على الفلسطينيين والعرب جميعاً"، والحق أنه لا يكاد يمضي يوم دون أن تؤكد الإدارة الأمريكية في سلوكها وفي تصريحات رئيسها ونائبه تشيني ووزير الدفاع رامسيفلد عزمها على المضي في حرب العولمة التي أعلنتها وتصعيدها. 

فها هو الرئيس بوش يصرح يوم 11/6 في اجتماع للاتحاد الديمقراطي الدولي بواشنطن بأن "امتلاك التنظيمات الإرهابية لأسلحة الدمار الشامل يجعلها تشكل قوة تدمير عالمية لا بد من مواجهتها بكل ضراوة لحماية النظم الديمقراطية والحريات في العالم"، وأنه يؤمن أن مهمته هي قتال ذلك العدو الوحشي "الشرير" لمصلحة العالم. وقد أكد تشيني في كلمته "أن الولايات المتحدة مستعدة لضرب المجموعات الارهابية لأن الردع لن يجدي في محاربة هذه المجموعات السرية". وعلى الصعيد نفسه أكد مسؤولون أمريكيون أن إدارة الرئيس بوش "ستُقِّر مبدأ الضربة الأولى لمنع هجمات محتملة ضمن وثيقة شاملة عن الاستراتيجية الأمريكية ستنشر في الخريف المقبل". وكانت إدارة بوش قد أصدرت يوم 1/10/2001 تقرير مراجعة الدفاع للسنوات الأربع الذي عرضه مفصلاً المفكر الاستراتيجي أنور عبد الملك في الأهرام يوم 19/3/2002، وعلق على استراتيجية الحرب الأمريكية بأن طابع الحرب فيها "كوني كوكبي شامل، وأن هدفها هو الحفاظ على المكانة المتفردة التي تمتعت بها الولايات المتحدة قبل 11/9/2001، وأنها من ثم حرب ضد المستقبل والممكن". 

إن الرئيس بوش يلح في تصريحاته وسلوكه على "أن سياسته هي ذروة في الوضوح والمباشرة" كما كتبت المعلقة الكبيرة فلورا لويس في هيرالد يرتبيون 16و17/3/2002) قبل أن تنتقل إلى رحمة الله في مطلع 6/2002. فهو يقول "أنتم تكونوا معنا أو تكونوا ضدنا" ويقول "لا حصانة ولا حياد" في القتال ضد قوى الشر التي تعبر عن نفسها بممارسة الإرهاب. وهو يتحدث مستخدماً جملاً قصيرة وبحماس. وقد لاحظت فلورا لويس "أن استطلاعات الرأي تكشف عن أن الكونجرس والأمريكيين على السواء يفهمونه ويؤيدونه بأغلبية كبيرة. ثم جاء تعليقها الذي استهلته بكلمة وزير الخارجية الفرنسي هيوبرت فيدرين "هذا تبسيط" وقالت "مما يعني أنه كلام غير واضح بالمرة ومجرد بلاغة غير حقيقية وها هو نائبه تشيني يتنقل حاملاً الرسالة يوم بعد يوم للدول  وبخاصة العربية بشأن ضرب العراق. ولكن معظم الآخرين من حلفاء أمريكا حائرون يعانون من عدم اليقين ومن الانزعاج بشأن الذي تنتويه واشنطن حقيقة". ومضت فلورا لويس في تعليقها "إن العدوان جرى تحديده على أنه الإرهابيون، وهؤلاء ليسوا موضوعين على أية خريطة ويمكن أن يظهروا في أي مكان"، وبعد أن تورد شكوى الدول الحليفة لأمريكا من خطورة هذه السياسة عليهم تختم تعليقها بأن جوابهم عن سؤال ما الذي ستفعله أمريكا يتسم بعدم اليقين في وقت لم يعودوا متمسكين فيه بمصائرهم. 

لقد تضمن آخر مقال لفلورا لويس في 10/4 التي استمرت مراسلة وكاتبة عمود في هيرالد تربيون 37 عاماً وأكملت الثمانين، "توبيخاً لإدارة بوش على رفضها توسيع القوات الدولية في أفغانستان" ويقول محرر الجريدة في نعيه لها "كانت قاطعة في كلامها على عادتها إذا كتبت مثلاً "مما لا شك فيه أن الإرهاب  يشكل خطراً، إلا أن الخطر الأكبر غدراً ومكراً هو المخدرات. منذ عامين كانت أفغانستان المنتج العالمي الأول للأفيون فقررت حركة طالبان اتخاذ إجراءات صارمة على هذا الصعيد. والمذهل هو أنها نجحت في وقف القسم الأكبر من نشاط الشبكة. لكن من دون مراقبة عسكرية جدية وبعض الخطوات الهامة إلى إحياء الاقتصاد بغية تأمين مصدر بديل للمداخل سرعان ما ستشبع أفغانستان من سوق المخدرات من جديد".

نعود إلى ما استهللنا به هذا الحديث عن تصريحات بوش يشأن الصراع العربي الصهيوني مؤتمره الصحفي مع مجرم الحرب شارون، "وتوضيح" البيت الأبيض لها ليخفف من "تخريبها"، فنقف أمام ما نشرته الأهرام يوم 13/6 عن "دعوة شارلوت بيرز مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون العامة والدبلوماسية الشعبية، إدارة الرئيس بوش إلى تكثيف جهودها لتحسين صورة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط حتى تتجنب تكرار هجمات 11/9/2001". وذلك في حديث أمام إحدى لجان الكونجرس. ونجد أن هذه الدعوة تُقّر ضمناً بأن صورة أمريكا في منطقتنا غير حسنة. والتعبير الأدق أنها صورة بشعة لدول كبرى تتحكم فيها قوى هيمن طاغوتية تستهدف أمتنا بالعداء الشديد وتوظف الصهيونية العنصرية في ممحاولة إخضاعنا واغتصاب فلسطين ومقدساتنا باستعمار استيطاني عنصري صهيوني. وليس هناك حتى الآن اية مؤشرات عن تحول بوش وإدارته عن ذلك، على الرغم من كل ما قدمته القمة العربية وما أعقبها من جهود وقيادات عربية لأحداث هذا التحول. بل إن السلوك الرسمي الداعم لجرائم شارون حافل بمؤشرات استمرار العداء الأمريكي لنا. وهو يقع في نطاق الاستراتيجية الأمريكية التي حددت فلسطين جبهة في حرب العولمة التي أعلنها الرئيس بوش إلى جانب جبهة أفغانستان. والرئيس بوش ماضٍ في هذه الجبهة إلى مزيد من تصعيد الصراع فيها بسلوكه وتصريحاته حتى آخر صهيوني عنصري. كما أنه ماضٍ في الوقت نفسه في التهديد بفتح جبهات أخرى في حربه، واعتماد مبدأ "الضربة الأولى لمنع هجمات محتملة". 

لقد نقلت رويتر الأمريكية هجوم الصحف الصينية الصادرة يوم 12/6/2002 على هذا المبدأ وهذه الاستراتيجية الأمريكية. وصفت صحيفة "الصين اليومية" في افتتاحيتها هذه السياسة الأمريكية "بأنها غير مبررة وتهدف للهيمنة" وقالت "أن إدارة بوش لا تظهر فقط افتقارها للتعقل الذي يجب أن تتحلى به قوى عالمية. بل تظهر أيضاً طموحات غير حكيمة لاستغلال القوة لفرض هيمنتها. ذلك أن الدفاع عن النفس لا يمكن أن يكون مبرراً للضربات الوقائية". وكان الرئيس بوش قد تحدث مؤخراً عن ضرورة أن يكون الجيش الأمريكي ممستعداً لتوجيه ضربات وقائية "لأن سياسات الحرب الباردة التي تقوم على الردع والاحتواء لم تعد تناسب عالم ما بعد 11/9 حسب زعمه". 

في محاولة تفسي هذا التوجه الأمريكي للمضي في حرب العولمة يشير عدد من المحللين السياسيين إلى "التحالف القائم بين الصناعيين والعسكريين في الولايات المتحدة". ويلاحظون أنه يسعى إلى التفرد برسم السياسة واعتماد الاستراتيجية. وقد كان له دور خاص في المجيء بالرئيس بوش وإدارته.

نزداد فهما للتوجه الأمريكي للحرب حين نقرأ ما كتبه المفكر الاستراتيجي الأمريكي بول كيندي في مقاله "النسر حطَّ على البر" "The Eagle Has Landed". فقد استهل بالحديث عن حاملة الطائرات الأمريكية "إنتر برايز" التي كانت يوم 11/9 في مهمة "روتينية" في المحيط الهندي. وقدَّم حقائق عنها بعد قوله "وهي مركب يتحدى خيال من لا يركب السفن"، فطولها 1100 قدم وعرضها 250 قدماً. وهي ترتفع عشرين طابقاً. إنها قرية، بل بلدة صغيرة تتحرك عبر المحيطات، على متنها 3200 بحار، و2400 طيار. وهي لا تسافر وحدها بل يرافقها سفينة حربية مختصة بإطلاق النار على القذائف المتجهة إليها، وكذلك مجموعة طرادات ومدمرات لحمايتها من غواصات معادية". ويتابع قائلاً "من الصعب تقدير تكاليفها بدقة، ولكنها تقاس بالبليونات من الدولارات. بما يعادل ربع ميزانية الدفاع لدولة متوسطة القوة. وهناك في العالم بضع حاملات طائرات بريطانية وفرنسية وهندية تبدو أصغر من أن تقارن بها. أما الحاملات الروسية فقد صدأت". ويصف حمولتها فهي "تحمل جل الأسلحة ومعها الدمار والموت". ثم يقول "وتملك الولايات المتحدة 12 حاملة طائرات تحمل واحدة منها اسم رونالد ريجان". وتتولى هذه الحاملات حماية مصالح أمريكا في العالم. وهي منتشرة فيه. ويوم 11/9 كان ثلاثة منها في شمال الأطلسي والكاريبي، وواحدة في الخليج الفارسي، واثنتان في الهادي، وخمسة في الوطن". ويتساءل بعد ذلك "كيف يتأتى في ضوء ما سبق أن تهاجم بلاد لديها هذا السلاح؟ المفروض لا يفعل ذلك إلا مجنون" وقد كتب الاستراتيجيون في الأسابيع التالية قائلين أن هجوم 11/9 لم يستهدف القوات الأمريكية التقليدية، بل قصد أن يؤذي". وأوضح بول كيندي "أن أمريكا تنفق على ميزانيتها العسكرية أكثر من ميزانيات الدول التسع التالية لها بالقوة" ومع ذلك فقد طلب وزير دفاعها دونالد رامسيفلد من الكونجرس زيادة 48 بليون دولار في العالم القادم.()

لقد أخذت ميزانية "البنتاجون" عام 1985 ما نسبته 6.5% من إجمالي الانتاج المحلي. وفي عام 1998 حصلت أمريكا على 75% من جوائز نوبل في العلوم والاقتصاد. ويختم بول كيندي مقاله متسائلاً "ما هي مضاعفات ذلك كله على الديمقراطية الأمريكية نفسها؟" ويقول "إن الأمريكيين الذين يحبون أن يكونوا محبوبين ، يجدون صعباً عليهم أن يواجهوا كراهية لهم في مختلف أنحاء العالم". وهو يُذكِّر بأن ايزنهاور حذَّر من تفرد "المركَّب  الصناعي العسكري في أمريكا"، مع أن هذا المركَّب هو الذي جاء به إلى الرئاسة. تماماً كما حذَّر فولبرايت من "غطرسة القوة". ويستذكر مصير قوى عسكرية بادت، ويتساءل "إذا كانت سْبارطة وروما قد فنيتا ، مَن من الدول يمكن أن يبقى؟". ويقرر "إن التحدي الرئيسي الذي يواجه العالم هو إنهيار طاقات أمريكا ومسؤولياتها، وما ينجم عن ذلك. ويبدو أن شريط المشاهد ذاك أمامه طريق طويل".

| الصفحة الرئيسية | سيرة ذاتية | مؤلفات | مقالات | مقابلات | مقتطفات | معرض الصور |