logo


حضارة وثقافة وعُمران
أحمد صدقي الدجاني

في خضم أحداث الحرب التي نعيشها مع عالمنا، ووسط معاناتنا مع أهلنا في فلسطين وهم يواجهون قوى العولمة المتوحشة والصهيونية العنصرية التي استهدفتها بالعدوان، وفي ظل متابعتهم الصمود والمقاومة في انتفاضة الأقصى العظيمة، يتأكد عزمنا على استمرار التوجه نحو "حوار بناء بين الحضارات". ونحمد لوزارة الأوقاف بدولة الكويت اختيار هذا الموضوع لندوتها السادسة لمستجدات الفكر الإسلامي مشيدين بعنايتها بفكرة التجديد وبما حققتها الندوات السابقة.

عُني منظمو الندوة بالوقوف أمام مصطلح "الحضارة"، فخصصوا المحور الأول من الندوة للنظر في تاريخ هذا المصطلح ودلالة مفهومة. ورغبوا إليّ أن أكون أحد اثنين يتناولان هذا الموضوع. وقد أسعدني أن يكون الآخر أخي عصام البشير وزير الأوقاف السوداني، وهو رجل علم وفضل.

خطر على بالي أن أستهل حديثي بتقديم شهادة شخصية قلت فيها

أمام حقيقة كثرة ما كتب عن تاريخ هذا المصطلح في دائرة الحضارة الغربية منذ عام 1805 حين استخدمه معجم اكسفور، وكذلك في دائرة الحضارة العربية الإسلامية في النصف الأول من ذلك القرن التاسع عشر الميلادي وعلى مدى القرن العشرين. وأمام حقيقة تعدد تعريفات الحضارة ودلالة مفهومها، حيث أحصى الباحثون لها 165 تعريفاً. وأمام حقيقة أنني شخصياً شغلت بهذا المصطلح على مدى نصف قرن وتناولته في عديد من كتبي، ألحّ علي وأنا أتأمل فيما أكتبه عنه اليوم أن أستهل بتقديم شهادة مثقف عربي مسلم عن تعرفه عليه وتعامله معه. وشجعني على ذلك أن هذه الشهادة تتصل بعلم تاريخ الأفكار الذي يُغني المعرفة.

أذكر أن هذا المصطلح استقر في وعي الفتى الذي كنته حين ختمت دراستي الثانوية عام 1951 بعد ثلاثة سنوات من نكبة فلسطين. وذلك في خضم عيشنا أحداثاً ساخنة ترددت فيها مصطلحات "تقدم وتخلف وتحضر ونهوض". وقد وضح مفهوم هذا المصطلح حين تعرفت في السنة الجامعية الأولى على مقدمة ابن خلدون التي تحدث فيها عن العُمران الحضري والعُمران البدوي واستخدام مصطلح الحضارة. وذلك في كتاب عبد الكريم اليافي "تمهيد في علم الاجتماع". ودرست كتاب "المدخل إلى تاريخ الحضارة" لجورج حداد، الذي عرّفني على كتاب أرنولد توينبي "دراسة في التاريخ" وقدم مفهومه عن الحضارة وتاريخها. ولم ألبث أثناء دراستي الجامعية أن ازددت معرفة بتاريخ الحضارات ومنها حضارتنا العربية الإسلامية من خلال كتاب شاكر مصطفى "في التاريخ العباسي" وكتاب عمر فروخ "عبقرية العرب في العلم والفلسفة". وفي تلك الفترة تعرفت على كتابيّ مالك بن نبي "مستقبل الإسلام وشروط النهضة"، ثم خطيتُ بالتعرف عليه وسماع محاضراته والجلوس إليه حين زار دمشق 1959 مع صديقي محمد رفعت فنيشن ولفتتني معادلته "تراب إنسان زمن" وبرز من خلال النظر فيها تساؤل عن دور الدين في التفاعل بين العوامل الثلاثة، وحين ترجمت دار الآداب كتابي كولن ولسن "اللامنتمي وسقوط الحضارة" الذي عنوانه الأصلي كما أذكر "الحضارة والدين" سنحت لي فرصة التعرف على من كتبوا عن الحضارة في الغرب. وجاء كتاب منح خوري عن توينبي ورؤيته للحضارة الإسلامية ليزيد اهتمامي بدراسة الحضارات بنظرة مقارنة. ثم قرأت في تلك الفترة تطبيقاً عملياً للنظرية الحضارية في كتاب وليد قمحاوي "النكبة والبناء" الذي تناول فيه تاريخ حضارتنا من منظور نكبة فلسطين. واقترن انتقالي للعمل مدرساً في طرابلس الغرب عام 1958 بإقبال شديد على القراءة في الحضارات والتأمل في قيامها وازدهارها وانحطاطها وتدهورها وأفولها. ثم كان لقائي بمؤلفات قسطنطين زريق المتصلة بالحضارة والدراسة المستقبلية "معنى النكبة" و"أي غدٍ" و"هذا العصر المتفجر"، التي توجها بكتبه الجامع "في معركة الحضارة عام 1964.

لقد وجدت أن قسطنطين زريق في كتبه هذا طرح جلّ الأسئلة المتعلقة بالحضارة والظاهرة الحضارية وأجاب عليها، حيث بدأ باستجلاء المفاهيم الأساسية، ثم نظر في ما هية الحضارة وشروطها متتبعاً دلالة اللفظ في اللسان العربي، وما كتبه ابن خلدون عنها محققاً سبقاً، ثم مناقشة قضية تعدد الحضارات، وباحثاً في مظاهر الحضارة، وفي قوام الحضارة، وفي التغيرات الحضارية، وعوامل التغير الحضاري، ووقف أمام تفاعل الحضارات، وناقش مقاييس التحضر، والتقدم والتحضر لينتهي بوقفة أمام الوضع الحضاري المعاصر، وفي معركة الحضارة. ومن خلال طرحه تعرفتُ على أعمال مفكري الغرب الذي شغلوا بالحضارة وعلى أفكارهم، ومنهم شبنجلر صاحب "انحطاط الغرب" وشفايتزر مؤلف "فلسفة الحضارة" ونورثروب مؤلف "لقاء الشرق والغرب" وسوروكين مؤلف "الدنياميات الاجتماعية والثقافية" فضلاً عن أرنولد توينبي.

تابعتُ في السينات والسبعينات الكثير مما صدر من كتابات تتصل بالحضارة. ولاحظت توجه سيد قطب لدراسة الظاهرة من منظور إسلامي. وشدتني كتابات زكي نجيب محمود في الموضوع. ثم لفتني الإقبال على التأليف في الموضوع بين التيارين القومي والإسلامي. وقد عني مركز دراسات الوحدة العربية بإصدار عدد من الكتب شأن المعهد العالمي للفكر الإسلامي. واقترنت هذه الظاهرة في التيار الإسلامي بطرح اجتهادات بشأن المصطلح في ضوء ما جاء في القرآن الكريم. ويمكن أن نأخذ فكرة عن هذا التوجه من مراجعة إصدارات "كتاب الأمة" حيث نجد فيها نظراً في الصراع الحضاري وفي التغير الحضاري وفي البناء الحضاري. كما نجد طرح مصطلح "الشهود الحضاري" الذي استخدمه عبد المجيد عمر النجار في ثلاثيته "الشهود الحضاري للأمة الإسلامية" وضمّنه نعمان السامراثي في عنوان كتابه "نحن والحضارة والشهود". ونجد مصطلح "ارتفاق الكون" بما يعنيه من رفق وانتفاع. وذلك في نطاق اجتهاد لاعتماد مصطلحات مما ورد في القرآن الكريم.

وكان نصر محمد عارف قد عمد إلى تأصيل مفاهيم الحضارة والثقافة المدنية في كتابه حولها، متتبعاً نشأتها في لغاتها ليصل إلى دلالاتها في اللسان العربي، ويبرز معنى "الشهود" في كلمة "الحضور"، فالحضارة هي الحضور والشهادة" وذلك في مصطلح التسعينات.

حرصتُ طوال هذه الرحلة الفكرية مع "الحضارة" على النظر في الحضارة العربية الإسلامية. وكان عدداً من رواد النهضة قد كتبوا فيها ومنهم كرد علي. كما تمت ترجمة كتب جوستان لوبون "حضارة العرب". وقد عني مصطفى السباعي في الخمسينات بهذا الموضوع فأصدر كتاب من "روائع حضارتنا" جامعاً فيه أحاديث رمضانية. ثم أصدر مجلة "حضارة الإسلام". وشهدت الخمسينات أيضاً طرح مصطلح "الدائرة الإسلامية" في كتاب فلسفة الثورة لجمال عبد الناصر ليشير إلى ديار الإسلام. وقد حرص جمال حمدان على دراسة هذه الدائرة في كتابه عن "العالم الإسلامي". وبقيت تعليقات شكيب أرسلان على كتاب "حاضر العالم الإسلامي" "لستودارد" مرجعاً أساسياً في هذا الموضوع منذ الثلاثينات.

كان مما استوقفني في هذه الرحلة مصطلح العمران الذي استخدمه ابن خلدون في مقدمته للدلالة على إحدى الخواص التي تميز بها الإنسان عن سائر الحيوانات. وهو عنده "التساكن والتنازل في مصرٍ أو حلةٍ للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات لما في طبائعهم من تعاون على المعاش". "ومن هذا العُمران ما يكون حضرياً ومنه ما يكون بدوياً". وقد خصص ابن خلدون فصلاً للعُمران البشري على الجملة وآخر للعُمران البدوي وثالث للعُمران الحضري، لأنني عنيت في قراءاتي بدراسة نمط الحياة البدوية واستجابة البدوي لتحديات الطبيعة من حوله. وذلك بعد أن تعرفت على وجهة نظر توينبي في هذا الموضوع. وجدت نفسي أطرح هذا المصطلح في كتاباتي منذ السبعينات. ثم جعلته في عنوان كتابي "عُمران لا طغيان" الذي صدر عام 1994. وشرعت منذ السبعينات أيضاً في طرح مصطلح "دائرة الحضارة الإسلامية" للدلالة على ديار الإسلام والعالم الإسلامي. وكنت أتحدث عن "حضارة عربية إسلامية" مبرزاً اعتمادها اللسان العربي في التعبير.كما عنيت بمصطلح الثقافة وببلورة رأي بشأن علاقته بمصطلح الحضارة. وهكذا غدا مصطلح الحضارة عندي متصلاً بمصطلحات الثقافة والعُمران والدائرة الحضارية. وهذه المصطلحات الأربعة وثيقة الصلة بمصطلح "الحضارة العربية الإسلامية". وقد شرحت هذه المصطلحات جميعها عام 1999 في محاضرة بمنتدى شومان بدعوة كريمة من  إبراهيم عز الدين، متتبعاً رحلتي الفكرية معها منذ 1974 حين عشت لحظة ممتدة في مدينة سمرقند أثناء زيارة لها. وفيما يلي ما بلورته بشأن المصطلحات الأربعة.

رغبتُ بعد ذلك أن أثبت ما توصلت إليه بشأن هذا المصطلح "الحضارة" ومصطلحين أخرين يقترنان به وهما "الثقافة" و"العُمران" بغية تحديد مفهوم كل منهما. وذلك كي نتجنب الوقوع في التباس المفاهيم. وما ينجم عنه من جدل عقيم. وما أكثر ما يحدث ذلك في حوارات بعض المثقفين. وإذا كان أجدادنا قالوا "لا مساحة في المصطلح" فإن هذا القول يدعو إلى تحديد مفهوم المصطلح. وقد أشرنا إلى أن الوقفة أمام هذه المصطلحات ستكون سريعة وذلك لأن مصطلحي الحضارة والثقافة أُشبعا بحثاً في دائرة حضارة الغرب ودائرتنا الحضارية الإسلامية على السواء. وقد قام باحثون بفهرسة التعريفات التي طرحت لكل منهما عبر قرنين ونيّف منذ أن تبلور في الفكر الغربي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي. وكان بإمكاننا أن نكتفي بما توصل إليه قسطنطين زريق في كتابه الجامع "في معركة الحضارة" بشأنهما من خلال دراسة متأنية، لولا إن باحثاً مرموقاً في عالم الفلسفة والنقد الأدبي هو محمود أمين العالم عمد مؤخراً إلى التساؤل "هل هناك تمايز وتفارق بين الحضارة والثقافة أم أنهما مترادفان؟" وانتهى إلى "أن الحضارة والثقافة تختلطان في دلالة واحدة". والحق أن جُل المفكرين العرب والغربيين يقولون بوجود "تمايز وتفارق" بين المصطلحين ولا يرونهما مترادفين. وإذا كان جدل ثار في الغرب حول تمايزهما أو أيهما يسع الآخر في مطلع القرن العشرين، فإن الرأي الغالب المعتمد اليوم هو إن لكل منهما مفهومه، وإذا كان المفهومين متصلين.

الثقافة في أبسط تعريفاتها هي "مجموع عناصر الحياة وأشكالها ومظاهرها في مجتمع من المجتمعات"، فهي إذاً "جماع حياة المجتمع"، يكتسبها الفرد من مجتمعه، وينميها بجهد عقلي داخلي وبعلم يتخصص فيه، فيتأدب ـ على حد تعبير أجدادنا ـ آخذاً من كل علم بطرف، ويعتز المجتمع بثقافته التي يتفرد بها لكونها نتاج امتزاج فكري نفسي عاطفي يوجه الإنسان، كما لاحظ د.أذرشب في ندوة التعاون العربي الإيراني، ويمكن أن نضيف "وروحي" أيضاً. وقد قدر أحد الباحثين الغربيين "ميردوك" وجود ثلاثة آلاف ثقافة في عالمنا كما أورد هاري شابيرو في كتابه "نظرات في الثقافة"، وثقافة مجتمع تصور ـ كما لاحظ ويل ديورانت في موسوعته قصة الحضارة "عملية الانتخاب الطبيعي التي تقوم به تجارب لا حصر لها..؛ كما لاحظ تصور حكمة الأجيال التي تعاقبت في المجتمع فتجمعت تراثاً غزيراً". ويلاحظ العلماء أن للدين تأثيراً قوياً على الثقافة، شأن اللغة. وانطلاقاً من هذا التعريف يمكن أن نتحدث عن "ثقافة النوبة" مثلاً في وادي النيل، ومثيلاتها هنا وهناك في عالمنا، باعتبارها "ثقافة محلية"، وعن "ثقافة قطرية" هي جامع للثقافات المحلية.

والحضارة في أبسط تعريفاتها هي "نمط من الحياة يتميز بخطوط وألوان من الرقي.. وتقوم في دائرة من الاتساع المكاني والبشري والزماني.. وتتضمن نظماً ومؤسسات وقيماً ومعاني تنطوي الحياة عليها". والحضارة بفعل ذلك كله تضم العديد من "الثقافات المحلية"، وعدداً من الثقافات القطرية، في "جامع مشترك" تفاعل فيه الإنسان مع المكان والزمان، وكوَّنته عناصر "الدين بما يوفره من رؤية كونية"، "ولسان جامع مشترك إلى جانب ألسنة أخرى" و"تاريخ وعادات ونظم قيم" في دائرة واسعة ينتمي إليها حضارياً كل البشر المقيمين في هذه الدائرة على اختلاف أقوامهم ومللهم وأنماط حياتهم وشرائحهم الاجتماعية، وقد عرف تاريخ الإنسان قيام عدد من الحضارات وازدهارها وأفول بعضها.

والعُمران هو مصطلح اقترحه ابن خلدون في مقدمته للدلالة على نمط الحياة بوجه عام، جاعلاً إياه إحدى الخواص التي تميز بها الإنسان عن سائر الحيوانات، وهو التساكن والتنازل في مصر أو حلةٍ للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات لما فيه من طباعهم من التعاون على المعاش. ومن هذا العُمران ما يكون حضرياً ومنه ما يكون بدوياً. وقد استلهم ابن خلدون المصطلح من الهدى القرآني "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"، (هود 61). والعُمران في اللسان العربي هو نقيض الخراب وعمر الإنسان هو اسم لمدة عمارة البدن بالحياة، وهكذا يكون تعمير العالم المدلول الإيجابي للتغير، لأن التغيير يمكن أن يكون سلبياً فيغدوا تخريباً. وقد آن الأوان ونحن ننظر في مستقبل الحضارة ونرى ما يتم باسم التحضر على صعيد الإخلال بالبيئة وبمحيطنا الحيوي وعلى صعيد الهندسة الوراثية أن نميز بين التعمير الحضاري وأي تخريب في إطار الظاهرة الحضارية. وهذا ما دعا كاتب هذا الحديث إلى اقتراح مصطلح العُمران الحضاري للدلالة على التوظيف الإيجابي للمنجزات الحضارية في كتابه "عُمران لا طغيان".

في ضوء هذه المصطلحات الثلاثة الثقافة والحضارة والعُمران، تتضح معالم مصطلح "الدائرة الحضارية" الذي يدل على حضارة نشأت وازدهرت، في رقعة من الأرض سكنها أقوام وملل وشعوب وقبائل وأمم شاركوا في إقامتها وانتموا إليها بثقافاتهم المحلية والقطرية. وقد عني التاريخ الحضاري بدراسة الظاهرة الحضارية في الاجتماع الإنساني عبر العصور، وبالتعرف على المجتمعات الحضارية التي ظهرت فيه، وبتحديد دوائرها الحضارية، وذلك منذ أن أرسى قواعدها ابن خلدون. ووقف أرنولد توينبي في دراسته الجامعة "دراسة في التاريخ" أمام واحد وعشرين مجتمعاً حضارياً حفظ لنا التاريخ أخبارهم، ظهروا في مختلف القارات، أشار إلى مجتمعات توقفت عن النمو الحضاري مثل الإسكيمو، وانتهى إلى أن هناك سبعاً من الحضارات بقيت ولكل منها دائرته الحضارية.

إن تعدد الحضارات التي قامت في الاجتماع الإنساني حقيقة يكاد يجمع عليها المختصون بالتاريخ الحضاري من المؤرخين. وقد فند هؤلاء مقولة نفر من المؤرخين الغربيين الذين ظهروا في عصر الاستعمار الأوروبي التي زعمت وجود حضارة واحدة هي حضارة الغرب الوارثة لحضارة الإغريق والرومان، وكل من كان خارج دائرتها فهم "برابرة". وهو التعبير الذي أطلقه بعض الإغريق القدماء على غيرهم. وكان لتوينبي جهد بارز في هذا التفنيد، وهو الذي كتب "العالم والغرب" بهذا الهدف. ولافت أن التاريخ الحضاري شهد ازدهاراً في القرن العشرين الميلادي، في مختلف أنحاء عالمنا، أسهم فيه عدد من المؤرخين العرب والمسلمين. كما أوضحت في شهادتي. ولا يزال القول بحقيقة تعدد الحضارات في عالمنا اليوم هو الغالب، وإن برز رأي يقول بأن الحضارة الغربية باتت في عصر ثورة الاتصال التي نشهدها حضارة كونية، وقد أشار هنتنجتون في مقاله إلى ف.س. نايبول الذي طرح هذا الرأي وزعم أن حضارة الغرب كونية كلية تناسب كل الناس. وطرح هذا الرأي مؤخراً محمود أمين العالم الذي تسائل "هل هناك حضارات متعددة في عصرنا الحالي أم هناك حضارة واحدة؟" وأجاب "بأن التعدد الحضاري كان موجوداً طوال التاريخ الماضي، بينما تسود في عصرنا الراهن حضارة واحدة غربية المنشأ رأسمالية". وخالفه كثيرون شرحوا حقيقة تعدد الحضارات اليوم، ونجد مثلاً على ذلك في ندوة مجلة المستقبل العربي صراع حضارات أم تعدد ثقافات، في العدد 12/1998 التي شارك فيها معه السيد ياسين وأسامة خليل وقيس جواد العزاوي والحق أن تخلل بعض الإنجازات المادية الغربية الحضارات الأخرى، لا يعني انتهاء هذه الحضارات، لأن ما يميز بين حضارة وحضارة ثقافتها وقيمها ورؤاها الكونية، وما الإنجازات المادية الغربية إلا ثمرة الإنجازات المادية للحضارات جميعاً التي تراكمت عبر العصور، ولذا لاحظ دارس الحضارات سهولة انتقالها في إطار التفاعل الحضاري على عكس انتقال الأفكار. وقد فصَّل قسطنطين زريق شرح ذلك في حديثه عن تفاعل الحضارات.

وبعد.. فإن مفهوم الدائرة الحضارية في ضوء ما سبق، ووفقاً للتعريف الذي أوردناه يتضمن عنصراً جغرافياً وآخر بشرياً سكانياً وعنصراً ثالثاً تراثياً ثقافياً حضارياً عمرانياً تحكمه رؤية كونية يوفرها الدين في غالب الأحيان والفلسفة الوضعية حيناً كما في العلمانية.


| الصفحة الرئيسية | سيرة ذاتية | مؤلفات | مقالات | مقابلات | مقتطفات | معرض الصور |